أيها العُبَّاد أدركوا فضائل شعبان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .. فإلى من هم أثرٌ لمن سلف من العُبَّاد والصالحين ، إلى من يحذون حذو الطامعين بما عند أرحم الراحمين ، ويقتدون بهدي سيد المرسلين ..
إلى من يُتابعون خُطى السالكين لدروب النجاة والغنيمة من أعمال البر والإحسان ، إلى مَن رَغِبوا حياة السعداء وأرادوا دار النعيم ، واجتنبوا حياة الأشقياء وحادوا عن طريق الغافلين ..
فإني أُذَكِّرُ نفسي وإياكم بأيامٍ هي من حياتنا ، بل وتُعرَضُ فيها أعمالنا ، ومع هذا يغفل أكثر الناس عنها فكما صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( شعبان بين رجب ورمضان ، يغفل الناس عنه ، ترفع فيه أعمال العباد ، فأُحِبُّ أن لا يرفع عملي إلا وأنا صائم ) الصحيحة 1898 .
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان .. قال : ( ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم ) رواه النسائي وحسنه الألباني1022.
فيظهر لنا من ذلك إرشاد نبينا وحبيبنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى استحباب الإكثار مِن الطاعات وصالح الأعمال في أوقات غفلة الناس ، كما أنَّهُ عليه الصلاة والسلام قد خَصَّ عملاً من الأعمال الصالحة ، وعبادة جليلة في شهر شعبان ألا وهي ( عبادة الصوم ) .. والتي لها الشأن العظيم ، ويظهر ذلك جلياً حين نراه يقرنها دائماً بعرض أعمال العباد على الله تعالى ، فكانت هي أحب عبادة له يعملها حين تُعرض أعماله على ربه.
ولنتأمل ذلك كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تُعرَضُ الأعمال يوم الاثنين والخميس ، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم ) .
فلا شك أنَّ هذا الأمر يجعلنا أشدُّ حرصاً على الإكثار من صالح الأعمال وبالأخص عبادة الصيام ، فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأيام التي تُعرض فيها أعمالنا على الله جل جلاله.
وكم نحن والله بحاجة إلى أن يرحمنا ربنا برحمته وهو يرى زلَّاتنا وهفواتنا وسقطاتنا حين تُعرض عليه أعمالنا ؛ فينظر إلينا ـ وهو أعلم بحالنا ـ وما أجمل أن نكون وقتها قد تركنا شهواتنا وطعامنا وأمسكنا عنها صياماً لله تعالى ، أو قائمون في أي عبادةٍ مِن ذِكرٍ أو صدقةٍ أو صلاة ، فَيَغفِرُ لنا ربنا وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين .
ألا وإنَّ عِظَمَ شأن الصيام جعل من النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ منه في شهر شعبان كما جاء في الحديث ـ المتفق عليه ـ عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت : ( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر أكثر من شعبان ، فإنّه كان يصوم شعبان كلَّه ، وفي رواية : كان يصوم شعبان إلا قليلاً ) .
وصح عنها ـ أيضاً ـ أنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : لا يفطر ، ويفطر حتى نقول: لا يصوم ، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر صياماً منه في شعبان ) .
وهكذا ـ أيّها العُـبَّاد ـ تُصبِحُ ما هِيِّةَ هذا الشهر قد وضَحَت وتبيِّنت لدى الجميع ، وأنَّ الصيامَ فيها هو أجمل ما يُتقَرَّبُ به ، وإن جُمِعَ معها أعمالاً صالحة فنورٌ على نور ، إلاّ أنَّ هناك تحذيراً نبوياً لمن أراد صياماً بنية الشك أو غيره لما فيه من التنَطُّع والتكلف ..
فقد جاء عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما عند ابن ماجة وصححه الألباني1651 من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى يجيء رمضان ) .
وكذا ما جاء عن أبي إسحق عن صلة قال: كنَّا عند عمار بن ياسر فأتي بِشَاةٍ مصلية ، فقال : كلوا .. فتنحَّىَ بعض القوم ، فقال : إني صائم ، فقال عمَّار : ( من صام اليوم الذي يُشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ) ..
قال : وفي الباب عن أبي هريرة وأنس قال أبو عيسى : حديث عمَّار حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين ، وبه يقول سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وكرهوا أن يصوم الرجل اليوم الذي يُشَكُّ فيه . ورأى أكثرهم إن صامه فكان من شهر رمضان أن يقضي يوما مكانه..
ولعل سائلاً يسأل : إذاً لا أصوم بعد المنتصف من شعبان ؟ فيكون الجواب على ذلك ما جاء ـ في سلسلة الأحاديث الصحيحة ـ في قوله عليه الصلاة والسلام : ( أحصوا هلال شعبان لرمضان ، ولا تخلطوا برمضان ؛ إلا أن يوافق ذلك صياماً كان يصومه أحدكم ، وصوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم ؛ فإنها ليست تغمى عليكم العدة ) ..
فقوله صلى الله عليه وسلم : ( إلا أن يوافق ذلك صياماً كان يصومه ) فهذا يعني أنَّهُ من كان محافظاً على صيام الاثنين والخميس أو أيّ صيامٍ كان يعتاده ويتنفل به لله تعالى في الأشهُر المنصرمة فإنه يبقى مداوماً على عمله .
وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما قد يُشكِل على الناس في يوم الشك وكيف يُحسَمُ أمره بقوله ـ كما في الحديث المتفق عليه ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ) .
نورٌ يسطع وسط شعبان :
أحبابنا القُرَّاء .. ومما في هذه الأيام من الفضائل ، والتي يغفل عنها أكثرنا ، هو ما جاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ينزل الله تبارك وتعالى ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لكل نفس إلا إنسان في قلبه شحناء أو مشرك بالله عز وجل .. ) الحديث. قال الألباني صحيح لغيره .
ومثله حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يطلع الله إلى خلقه ليل النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا مشرك أو مشاحن ) صححه الألباني .
وكذلك الحديث الصحيح الذي رواه أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا كان ليلة النصف من شعبان يطلع الله عز وجل إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويترك أهل الضغائن وأهل الحقد بحقدهم ) .
أيها ـ الإخوة الأكارم ـ إنّها المغفرة ، وأجمِل به مِن عَرضٍ يتنزَّلُ به ذي الفضل والإنعام ، والكرم والإحسان ، يتنافسُ فيه المتنافسون ، ويغفلُ عنه الغافلون ، وعَرْضُ المغفرة هنا يتطلب نزاهةً وطهارةً وسلامةً من الشرك بأنواعه فقد قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً ) النساء48.
فلنُفتِّش عن أنفسنا جيداً حتى نتأكّد بأنَّ ديننا كلُّه خالصاً لله رب العالمين لا شريك له .. وما أجمل هذا الهدي الرباني ـ بعد ذلك ـ والذي يدعوا إلى التآلف وجمع الكلمة ، ونبذ الفرقة والنزاعات ، وكأنه يريد مِنَ النفوس المؤمنة أن تستقبل شهر رمضان بقلوبٍ متآلفة ، ونفوسٍ متحابة ، مرتبطة بروابط الأخوة ..
ولذلك مَن أراد المغفرة وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ مُصَدِّقٌ بموعود الله ، مخلصاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ، بعيداً عن القطيعة والشحناء ، وسوء الظن بالناس ، رحيماً بعباد الله لا يحمل حقداً ولا غِلاً على أحد من المسلمين ؛ فإنَّه على خير عظيم وإلى فضل الله تعالى قريب جداً ..
فلنتسابق جميعاً ـ أيها الأحبة ـ في هذا الخير والهبة الربانية ، ولنُمَرِّن أنفسنا على الطاعة والصبر على العبادة في شعبان ، فنكون أهلاً لخوض المسابقة والتنافس الحقيقي في شهر رمضان المبارك ، سائلين المولى ـ جلَّ جلاله وتقدَّست أسماؤه ـ أن يبارك لنا في شعبان وأن يبلِّغنا رمضان ، وأن يجعلنا فيه من العاملين والمقبولين .. اللهم آمين
منقول